سورة سبأ - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (سبأ)


        


{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)}
{الحمد للَّهِ الذى لَهُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض} أي له عز وجل خلقًا وملكًا وتصرفًا بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة جميع ما وجد فيهما داخلًا في حقيقتهما أو خارجًا عنهما متمكنًا فيهما فكأنه قيل: له هذا العالم بالأسر، ووصفه تعالى بذلك على ما قاله أبو السعود لتقرير ما أفاده تعليق الحمد المعرف بلام الحقيقة عند أرباب التحقيق بالاسم الجليل من اختصاص جميع أفراد المخلوقات به عز وجل ببيان تفرده تعالى واستقلاله بما يوجب ذلك وكون كل ما سواه سبحانه من الموجودات التي من جملتها الإنسان تحت ملكوته تعالى ليس لها في حد ذاتها استحقاق الوجود فضلًا عما عداه من صفاتها بل كل ذلك نعم فائضة عليها من جهته عز وجل فما هذا شأنه فهو عزل من استحقاق الحمد الذي مداره الجميل الصادر عن القادر بالاختيار فظهر اختصاص جميع أفراده به تعالى، وفي الوصف بما ذكر أيضًا إيذان بأنه تعالى المحمود على نعم الدنيا حيث عقب الحمد بما تضمن جميع النعم الدنيوية فيكون الكلام نظير قولك: أحمد أخاك الذي حملك وكساك فإنك تريد به احمده على حملانه وكسوته، وفي عطف قوله تعالى: {وَلَهُ الحمد فِى الاخرة} على الصلة كما هو الظاهر إيذان بأنه سبحانه المحمود على نعم الآخرة ليتلاءم الكلام، وفي تقييد الحمد فيه بأن محله الآخرة إيذان بأن محل الحمد الأول الدنيا لذلك أيضًا فتفيد الجملتان أنه عز وجل المحمود على نعم الدنيا فيها وأنه تبارك وتعالى المحمود على نعم الآخرة فيها، وجوز أن يكون في الكلام صنعة الاحتباك وأصله الحمدلله إلخ في الدنيا وله ما في الآخرة والحمد فيها فأثبت في كل منهما ما حذف من الآخر، وقال أبو السعود: إن الجملة الثانية لاختصاص الحمد الأخروي به تعالى إثر بيان اختصاص الدنيوي به سبحانه على أن {فِى الاخرة} متعلق بنفس الحمد أو بما تعلق به {لَهُ} من الاستقرار، وإطلاقه عن ذكر ما يشعر بالمحمود عليه ليس للاكتفاء بذكر كونه في الآخرة عن التعيين كما اكتفى فيما سبق بذكر كون المحمود عليه في الدنيا عن ذكر كون الحمد فيها أيضًا بل ليعم النعم الأخروية كما في قوله تعالى: {الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الارض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء} [الزمر: 74] وقوله تعالى: {الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ} [فاطر: 34، 35] وما يكون ذريعة إلى نيلها من النعم الدنيوية كما في قوله تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا} [الأعراف: 43] أي لما جزاؤه هذا النعيم من الإيمان والعمل الصالح.
وأنت تعلم أن المتبادر إلى الذهن هو ما قرر أولًا، والفرق بين الحمدين مع كون نعم الدنيا ونعم الآخرة طريق التفضل أن الأول على نهج العبادة والثاني على وجه التلذذ والاغتباط، وقد ورد في الخبر أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، وقول الزمخشري: إن الأول واجب لأنه على نعمة متفضل بها والثاني ليس بواجب لأنه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها مبني على رأي المعتزلة على أن قوله: لأنه على نعمة واجبة الإيصال ليس على إطلاقه عندهم لأن ما يعطي الله تعالى العباد في الآخرة ليس مقصورًا على الجزاء عندهم بل بعض ذلك تفضل وبعضه أجر، وتقديم الخبر في الجملة الثانية لتأكيد الحصر المستفاد من اللام على ما هو الشائع اعتناء بشأن نعم الآخرة، وقيل: للاختصاص لأن النعم الدنيوية قد تكون بواسطة من يستحق الحمد لأجلها ولا كذلك نعم الآخرة، وكأنه أراد لتأكيد الاختصاص أو بني الأمر على أن الاختصاص المستفاد من اللام عنى الملابسة التامة لا الحصر كما فصله الفاضل اليمني، وأما أنه أراد لاختصاص الاختصاص فكما ترى، ويرد على قوله: ولا كذلك نعم الآخرة {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79] فتأمل {وَهُوَ الحكيم} الذي أحكم أمر الدارين ودبره حسا تقتضيه الحكمة {الخبير} العالم ببواطن الأشياء ومكنوناتها ويلزم من ذلك علمه تعالى بغيرها، وعمم بعضهم من أول الأمر وما ذكر مبني على ما قاله بعض أهل اللغة من أن الخبرة تختص بالبواطن لأنها من خبر الأرض إذا شقها، وفي هذه الفاصلة إيذان بأنه تعالى كما يستحق الحمد لأنه سبحانه منعم يستحقه لأنه جل شأنه منعوت بالكمال الاختياري وتكميل معنى كونه تعالى منعمًا أيضًا بأنه على وجه الحكمة والصواب وعن علم وضع الاستحقاق والاستيجاب لا كمن يطلق عليه أنه منعم مجازًا، وقوله تعالى:


{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)}
{يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الارض} إلخ استئناف لتفصيل بعض ما يحيط به علمه تعالى من الأمور التي نيطت بها مصالحهم الدينية والدنيوية، وجوز أن يكون تفسيرًا لخبير، وأن يكون حالًا من ضميره تعالى في {لَّهُ مَا فِي السموات} [سبأ: 1] فيكون {لَهُ الحمد فِى الاخرة} اعتراضًا بين الحال وصاحبها أي يعلم سبحانه ما يدخل في الأرض من المطر {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من النبات قاله السدي.
وقال الكلبي: ما يدخل فيها من الأموات وما يخرج منها من جواهر المعادن، والأولى التعميم في الموصولين فيشملان كل ما يلج في الأرض ولو بالوضع فيها وكل ما يخرج منها حتى الحيوان فإنه كله مخلوق من التراب.
{وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي من الملائكة قاله السدي. والكلبي، والأولى التعميم فيشمل {مَا يُنَزّلٍ} المطر والثلج والبرد والصاعقة والمقادير ونحوها أيضًا {وَمَا يَعْرُجُ} الأبخرة الأدخنة وأعمال العباد وأدعيتهم ونحوها أيضًا، ويراد بالسماء جهة العلو مطلقًا ولعل ترتيب المتعاطفات كما سمعت إفادة للترقي في المدح، وضمن العروج معنى السير أو الاستقرار على ما قيل فلذا عدى بفي دون إلى، وقيل: لا حاجة إلى اعتبار التضمين والمراد بما يعرج فيها ما يعرج في ثخن السماء ويعلم من العلم بذلك العلم بما يعرج إليها من باب أولى فتدبر، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. والسلمي {يُنَزّلٍ} بضم الياء وفتح النون وشد الزاي أي الله كذا في البحر.
وفي الكشاف عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ {نُنَزّلُ} بالتشديد ونون العظمة {وَهُوَ} مع كثرة نعمته وسبوغ فضله {الرحيم الغفور} للمفرطين في أداء مواجب شكرها فهذا التذنيب مع كونه مقررًا للخبرة مفصل لما أجمل في قوله سبحانه: {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض} يعرف منه كيف كان كله نعمة وكالتبصر لأنواع النعم الكلية فكل منه ومن التذنيب السابق في موضعه اللاحق فلا تتوهم أن العكس أنسب.


{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)}
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة} أرادوا بضمير المتكلم جنس البشر قاطبة لا أنفسهم أو معاصريهم فقط وبنفي إتيانها نفي وجودها بالكلية لا عدم حضورها مع تحقيقها في نفس الأمر، وإنما عبروا عنه بذلك لأنهم كانوا يوعدون بإتيانها، وقيل: لأن وجود الأمور الزمانية المستقبلة لا سيما أجزاء الزمان لا يكون إلا بالإتيان والحضور، وقيل: هو استبطاء لإتيانها الموعود بطريق الهزء والسخرية كقولهم: {متى هذا الوعد} [سبأ: 29]؟ والأول أولى، والجملة قيل: معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة وجعلها حالية غير ظاهر {قُلْ بلى} رد لكلامهم وإثبات لما نفوه على معنى ليس الأمر إلا إتيانها، وقوله تعالى: {وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ} تأكيد له على أتم الوجوه وأكملها، وجاء القسم بالرب للإشارة إلى أن إتيانها من شؤون الربوبية، وأتى به مضافًا إلى ضميره صلى الله عليه وسلم ليدل على شدة القسم، وروى هارون كما قال ابن جني عن طليق قال: سمعت أشياخنا يقرؤون {ليأتينكم} بالياء التحتية وخرجت على أن الفاعل ضمير البعث لأن مقصودهم من نفي إتيان الساعة أنهم لا يبعثون، وقيل: الفاعل ضمير {إِنَّ الساعة} على تأويلها باليوم أو الوقت. وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد إذ لا يكون مثل هذا إلا في الشعر نحو:
ولا أرض أبقل إبقالها ***
وقوله تعالى: {عالم الغيب} بدل من المقسم به على ما ذهب إليه الحوفي. وأبو البقاء، وجوز أن يكون عطف بيان، وأجاز أبو البقاء أن يكون صفة له.
وتعقب بأنه صفة مشبهة وهي كما ذكره سيبويه في الكتاب لا تتعرف بالإضافة إلى معرفة والجمهور على أنها تتعرف بها ولذا ذهب جمع من الأجلة إلى أنه صفة ووصف سبحانه بإحاطة العلم إمدادًا للتأكيد وتشديدًا له إثر تشديد فإن عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه وشدة ثباته واستقامته لأنه نزلة الاستشهاد على الأمر وكلما كان المستشهد به أعلى كعبًا وأبين فضلًا وأرفع منزلة كانت الشهادة أقوى وآكد والمستشهد عليه أثبت وأرسخ، وخص هذا الوصف بالذكر من بين الأوصاف مع أن كل وصف يقتضي العظمة يتأتى به ذلك لما أن له تعلقًا خاصًا بالمقسم عليه فإنه أشهر أفراد الغيب في الخفاء ففيه مع رعاية التأكيد حسن الأقسام على منوال وثناياك أنها إغريض كأنه قيل: وربي العالم بوقت قيامها لتأتينكم، وفيه إدماج أن لا كلام في ثبوتها.
وقال صاحب الفرائد: جىء بالوصف المذكور لأن إنكارهم البعث باعتبار أن الأجزاء المتفرقة المنتشرة يمتنع اجتماعها كما كانت يدل عليه قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الارض مِنْهُمْ} [ق: 4] الآية، فالوصف بهذه الأوصاف رد لزعمهم الاستحالة وهو أن من كان علمه بهذه المثابة كيف يمتنع منه ذلك انتهى، واستحسنه الطيبي، وقال في البحر: أتبع القسم بقوله تعالى: {عالم الغيب} وما بعده ليعلم أن إتيانها من الغيب الذي تفرد به عز وجل، وما ذكر أولًا أبعد مغزى، وفائدة الأمر بهذه المرتبة من اليمين أن لا يبقى للمعاندين عذر ما أصلًا فإنهم كانوا يعرفون أمانته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن وصمة الكذب فضلًا عن اليمين الفاجرة وإنما لم يصدقوه عليه الصلاة والسلام مكابرة، وغفل صاحب الفرائد عن هذه الفائدة فقال: اقتضى المقام اليمين لأن من أنكر ما قيل له فالذي وجب بعد ذلك إذا أريد إعادة القول له أن يكون مقترنًا باليمين وإلا كان خطأ بالنظر إلى علم المعاني وإن كان صحيحًا بالنظر إلى العربية والنحو.
وقد يغفل إلا ريب.
وقرأ نافع. وابن عامر. ورويس. وسلام. والجحدري. وقعنب {عالم} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو عالم، وجوز الحوفي أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي عالم الغيب هو، وجوز هو وأبو البقاء أن يكون مبتدأ والجملة بعده خبره.
وقرأ ابن وثاب. والأعمش. وحمزة. والكسائي {عِلْمَ} بصيغة المبالغة والخفض، وقرئ {عالم} بالرفع يكون بلا مبالغة {الغيوب} بالجمع {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} أي لا يبعد ومنه روض عزيب بعيد من الناس.
وقرأ الكسائي بكسر الزاي {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} مقدار أصغر نملة {فِي السموات وَلاَ فِى الارض} أي كائنة فيهما {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك} أي مثقال ذرة {وَلا أَكْبَرَ} أي منه، والكلام على حد {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} ورفعهما على الابتداء والخبر قوله تعالى: {إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ} هو اللوح المحفوظ عند الأكثرين.
والجملة مؤكدة لنفي العزوب، وقرأ الأعمش. وقتادة. وأبو عمرو. ونافع في رواية عنهما {وَلاَ أَصْغَرَ وَلا أَكْبَرَ} بالنصب على أن {لا} لنفي الجنس عاملة عمل إن وما بعدها اسمها منصوب بها لأنه شبيه بالمضاف ولم ينون للوصف ووزن الفعل فليس ذلك نحو لا مانع لما أعطيت، والخبر هو الخبر على قراءة الجمهور، وقال أبو حيان: {لا} لنفي الجنس وهي وما بنى معها مبتدأ على مذهب سيبويه والخبر {إِلاَّ فِى كتاب} وما ذكرناه في توجيه القراءتين هو الذي ذهب إليه كثير من الأجلة، وقيل: إن ذلك معطوف في قراءة الرفع على {مِثْقَالَ} وفي القراءة الأخرى على {ذَرَّةٍ} والفتحة فيه نيابة عن الكسرة للوصف والوزن وإليه ذهب أبو البقاء. واستشكل بأنه يصير المعنى عليه إذا كان الاستثناء متصلًا كما هو الأصل لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين فإنه يعزب عنه فيه، وفساده ظاهر، والتزم السراج البلقيني على تقدير العطف المذكور أن يكون الاستثناء من محذوف والتقدير ولا شيء إلا في كتاب ثم قال: ولا بدع في حذف ما قدر لدلالة الكلام عليه، ويحصل من مجموع ذلك إثبات العلم لله تعالى بكل معلوم وأن كل شيء مكتوب في الكتاب، وقيل العطف على ما ذكر والاستثناء منقطع والمعنى لا يعزب عنه تعالى شيء من ذلك لكن هو في كتاب، وقيل العطف على ذلك والكلام نهج قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
فالمعنى إن كان يعزب عنه شيء فهو الذي في كتاب مبين لكن الذي في الكتاب لا يعزب عنه فلا يعزب عنه شيء، وفيه من البعد ما فيه؛ وقيل: إن المراد بقوله تعالى: {لاَ يَعْزُبُ} إلخ أنه تعالى عالم به والمراد بقوله سبحانه: {إِلاَّ فِى كتاب} نحو ذلك لأن الكتاب هو علم الله تعالى، والمعنى وما يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا يعلمه ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في علمه فيكون نظير قوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظلمات الارض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كتاب} [الأنعام: 59] وفيه أنه أبعد مما قبله، وقيل: يعزب عنى يظهر ويذهب والعطف على ما سمعت، والمعنى لم يظهر شيء عن الله تعالى بعد خلقه له إلا وهو مكتوب في اللوح المحفوظ، وتلخيصه كل مخلوق مكتوب، وفيه أن هذا المعنى ليعزب غير معروف وإنما المعروف ما تقدم، نعم قال الصغاني في العباب قال: أبو سعيد الضرير يقال ليس لفلان امرأة تعزبه أي تذهب عزبته بالنكاح مثل قولك تمرضه أي تقوم عليه في مرضه ثم قال الصغاني: والتركيب يدل على تباعد وتنح فتفسيره بالظهور بعيد ولئن سلمنا قربه فلأي شيء جمع بين الظهور والذهاب، وقيل إلا عنى الواو وهو مقدر في الكلام والكلام قد تم عند {أَكْبَرَ} كأنه قيل: لا يعزب عنه ذلك وهو في كتاب، ومجىء إلا عنى الواو ذهب إليه الأخفش من البصريين والفراء من الكوفيين.
وخرج عليه قوم {يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم} [النجم: 32] و{خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والارض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} [هود: 107] وقد حكى هذا القول مكى في نظير الآية ثم قال: وهو قول حسن لولا أن جميع البصريين لا يعرفون إلا عنى الواو كأنه لم يقف على قول الأخفش وهو من رؤساء نحاة البصرة أو لم يعتبره فلذا قال جميع البصريين، وقد كثر الكلام في هذا الوجه وارتضاه السراج البلقيني وأنا لا أراه مرضيًا وأن أوقد له ألف سراج، وقيل العطف على ما سمعت وضمير {عَنْهُ} للغيب فلا إشكال إذ المعنى حينئذ لا يبعد عن غيبه شيء إلا ما كان في اللوح لبروزه من الغيب إلى الشهادة واطلاع الملأ إلا على عليه.
وتعقب بأن المعنى لا يساعده لأن الأمر الغيبي إذا برز إلى الشهادة لم يعزب عنه بل بقي في الغيب على ما كان عليه مع بروزه، ومعناه أن كونه ففي اللوح المحفوظ كناية عن كونه من جملة معلوماته تعالى وهي إما مغيبة وإما ظاهرة وكل مغيب سيظهر وإلا كان معدومًا لا مغيبًا وظهوره وقت ظهوره لا يرفع كونه مغيبًا فلا يكون استثناء متصلًا، ألا ترى أنك لو قلت علم الساعة مغيب عن الناس إلا علمهم بها حين تقوم ويشاهدونها لم يكن هذا الاستثناء متصلًا كذا قيل فتأمل ولا تغفل.
وأنت تعلم أن هذا الوجه على فرض عدم ورود ما ذكر عليه ضعيف لأن الظاهر الذي يقتضيه قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الارض وَلاَ فِى السماء} [يونس: 61] الآية رجوع الضمير إلى الله عز وجل.
والذي ذهب إليه أبو حيان أن الكتاب ليس هو اللوح وليس الكلام إلا كناية عن ضبط الشيء والتحفظ به وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ} بكسر الراءين.
وخرج على أنه نوى مضاف إليه والتقدير ولا أصغره ولا أكبره، و{مّن ذلك} ليس متعلقًا بأفعل بل هو تبيين لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم لفظًا فبين بقوله تعالى من ذلك أي أعني من ذلك، ولا يخفى أنه توجيه شذوذ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8